حياة الرسول قبل البعثة: من المولد إلى نزول الوحي

حياة الرسول قبل البعثة

لَم تَكُن حياة الرسول قَبْل البعثة ﷺ مِثل المشركين مِن قَومِه (يَعبُدون الأصنام والأوثان ويفعلون الفواحش) بل كان ﷺ يَعبُد اَللَّه وَحدَه على دِين إِبراهيم عليه السَّلَام ويتعَبَّد فِي غار حِرَاء وَينفِر مِن عِبادة قَومِه.

ونلتقي مرة اخرى في قصة جديدة نتحدث فيها عن حياة الرسول قبل البعثة: من المولد إلى نزول الوحي، ونكمل الأحداث السابقة:

تاريخ العرب قبل الإسلام | صفحات من السيرة النبوية

حياة الرسول: بين يدي ميلاد الرسول ﷺ

كلُ الكتبِ السماويةِ السابقةِ قد بشرت بقدومِ رسولٍ سيأتي في آخرِ الزمانِ، وذكرت صفات الرسول محمد ﷺ عندهم وكلَ من كانَ على علمٍ بتلكَ الكتبِ كانَ ينتظرُ قدومَ ذلكَ النبيِ، ومن ذلك:

  • القصةُ التي يرويها البخاري عن أبي سفيان عندما استدعاهُ هرقل في بلادِ الشامِ إذ يقولُ في آخرها هرقل: وقد كنتُ أعلمُ أنهُ خارج نبيٍ ولم أكن أظنُ أنهُ منكم.
  • قصةَ النجاشي وموقفهُ منْ أصحابِ رسول الله في هجرتهمْ إليهِ وقولهم بعدَ نقاشٍ طويل عندما أوفدت قريشَ عمرو بن العاص وعمارةُ بن الوليد لإخراجهم: (أشهدُ أنهُ رسولُ الله وأنهُ المبشرُ بهِ عيسى في الإنجيلِ).
  • وقد اشتهرَ حديثُ اليهودِ للأوسِ والخزرج عن مجيءِ نبيٍ وكانَ ذلكَ من جملةِ الأسبابِ التي جعلت هذا الاستعدادِ الكبيرِ عند الأوس والخزرج للإيمانِ.
  • عبدُ الله ابن سلام كانَ يهوديا ثمَ أسلمَ بعدَ ذلكَ حينما قالَ: (إنهُ موجودٌ في التوراةِ صفاتِ النبي محمد عندهم ومنها أنهُ ﷺ رسولٌ من اللهِ وشاهدَ على أمتهِ ومبشرهم بما وعدهم اللهُ بهِ ونذيرًا لهم من عذابِ اللهِ وأنهُ ليسَ بفاحشٍ ولا بذيءً ولا صخاب بالأسواقِ ولا يردُ بالسيئةِ مثلها ولكن يعفو ويتجاوزُ، وأنهُ لن يموتَ حتى يؤديَ رسالتهُ بأن تشهدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ وينيرُ القلبُ بنورِ الإسلامِ).
  • وجاءَ أيضا في (الإنجيل) عن قدومِ النبيِ ﷺ وكانَ الرهبانُ منهم يقرونَ بذلكَ وينتظرونَ ذلكَ النبيِ مثل (ورقة بن نوفل) وهوَ ابنُ عمِ السيدة خديجة وكانَ على علمٍ بالكتبِ السماويةِ فهوَ من أخبرها بنبوءةِ سيدنا محمد ﷺ.
النجاشي وموقفهُ منْ أصحابِ رسول الله 1

والقرآن الكريم أيضاً ذكر ذلك في دعاء سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل، وقول سيدنا عيسى عليه السلام يبشر بقدومه ﷺ فقال تعالى:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)

سورة البقرة

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6)

سورة الصف

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

سورة الأعراف

وهذه الآية أعظم دليل على ذكر الرسول في الكتب السماوية التي نزلت قبل مجيئهﷺ.

فمنهم من صدقه وآمن به ومنهم من كذبه وأعرض عنه.

نسب الرسول الطاهر والمولد الشريف

لقدْ اختارَ لنا اللهُ رسولاً منْ البشرِ بلْ أعظم بشري في الكونِ (محمدْ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) فهوَ منْ أحسنِ الأنسابِ وأفضلها وأطهرها.

والدليلُ على ذلكَ قولهُ ﷺ

إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنانَةَ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشًا مِن كِنانَةَ، واصْطَفَى مِن قُرَيْشٍ بَنِي هاشِمٍ، واصْطَفانِي مِن بَنِي هاشِمٍ

صحيح مسلم

فاسمه كما ذكر في صحيح البخاري محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هَاشم بن عبد مَنَاف بن قُصَيّ بن كِلاب بن مُرَّةَ بن كَعْب بن لُؤَيّ بن غالِب بن فِهْر بن مالِك بن النَّضْر بن كِنَانَة بن خُزَيْمة بن مُدْرِكة بن إلْيَاس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عَدنان.

وهناك من زاد على عدنان فقد اختلفوا في عدد الأباء بين عدنان وإسماعيل والصحيح هو سرد نسبهُ إلي عدنان فقط.

وَالِد رَسُول اَللَّه ﷺ

هُو عَبْد اَللَّه كان أَحسَن أخواته وأفْضلهم خُلُقا وأصْغرهم سِنًّا وَكَان لَه مَكانَة خَاصَّة عِنْد قُرَيش كُلهَا وقد نجَا مِن الذَّبْح.

فَقْد نذر أَبُوه عَبْد اَلمُطلب لِلَّه أَنَّه إِذَا رَزقَه اَللَّه بِعشرة أَولَاد مِن الذُّكور ليذْبح أَحدهم لِلَّه عِنْد صنم الكعْبة فأعْطَاه اَللَّه مَطْلَبه فَلمَّ كبر أبْناءه أخْبرَهم بِذَلك فأجابوه.

فَعمَل قُرعَة وَكَان فِي كُلِّ مَرَّة يقع الاخْتيار على عَبْد اَللَّه بْن عَبْد اَلمُطلب فطلبتْ قُرَيش مِن عَبْد اَلمُطلب أن يَذهَب إِلى عرَّافًا لِيسْتشيره فِي ذَلِك الأمْر فَذهَب عَبْد اَلمُطلب إِلى عرَّاف كان مَشهُور فِي قُرَيش فَطلَب العرَّاف مِنْه أن يَكتُب اِسْم عَبْد اَللَّه وَعشرَة ابِل وَفِي كُلِّ مَرَّة يقع على اِبْنِه يزيد عَشرَة ابِل أُخرَى حَتَّى وصل عدد اَلإبِل مِائَة فأصْبح فِدْيته بِمائة مِن اَلإبِل فَقَام عَبْد اَلمُطلب بِذَبح المائة إبِل عِنْد الكعْبة، ثُمَّ تَزوَّج عَبْد اَللَّه (بِآمنة بِنْت وهب اَلزهْرِي) وكانتْ مِن أَشرَف أَنسَاب قُرَيش أيْضًا ثُمَّ سَافَر عَبْد اَللَّه إِلى الشَّام لِلتِجارة وَرجَع بِمَرض قَوِي حَتَّى تُوفِّي قَبْل مِيلَاد الرَّسولﷺ.

جد رسول الله ﷺ

هُو عَبْد اَلمُطلب واسْمه شَيبَة لِشَيبٍ فِي رَأسِه، وأبيه(هَاشِم) وَأُمه( سلْمي بِنْتِ عمْرو الخزْرجيَّة) مِن بَنِي النَّجَّار وَهذِه بِداية العلاقة بَيْن بَنِي هَاشِم وَبنِي النَّجَّار وَخرَج هَاشِم فِي رِحْلَة تِجارِيَّة لِغَزة فَمَات وَدفِن هُنَاك، فاهْتَمَّتْ سلمى بِترْبِية اِبنهَا شَيبَه (عَبْد اَلمُطلب) فَذهَب عمُّه المطْلب إِلَيه وَأخذَه معه إِلى مَكَّة حَيْث لا أحد يعْرفه فِي مَكَّة، فَكَان أَهْل مَكَّة يحْسبه عبْدًا اِشْترَاه المطْلب فأطْلقوا عليْه (عَبْد اَلمُطلب).

وَورث عن أبيه وأجْداده شرف الرِّفادة والسِّقاية(طَعَام كان يُصنَع لِلْحجَّاج على طَرِيقَة الضِّيافة)، فأصْبح عَبْد اَلمُطلب سيِّدًا فِي قَومِه بِلَا مُنَازِع، ثُمَّ تَولَّى زَعامَة قُرَيش وَمكَّة بِأكْملهَا.

مولده صلى الله عليه وسلم

وُلِد رَسُول اَللَّه ﷺ سنة 571 م (عام الفيل) وَسُمي بِذَلك عِنْدمَا أَرَاد أَبرَهة الحبَشي هَدْم الكعْبة فَجهَّز جَيْش مِن الفيَلة وأرْسلهم لِهَدم الكعْبة فأرْسل اَللَّه عَليهِم طيْرًا أَبابِيل كمَا قال تَعالَى فِي سُورَة الفيل.

فقد ولد ﷺ يتيماً لموت أبيه وهو في بطن أمه ففرح جده عبد المطلب بميلاده وفرح كل أعمامه وبعد أن أتم الست سنوات ماتت أمه، فأخذه جده عبد المطلب فبقي معه سنتين ثم توفي جده وهو في الثامنة من عمره ثم كفله عمه (أبو طالب) الذي أحسن إليه وعامله مثل أولاده.

الأحداث التي شهدها الرسول قبل البعثة

حضر رَسُول اَللَّه ﷺ قَبْل بعْثته أحْداثًا هَامَّة مع قَومِه وأعْمامه وَمِنهَا

حرب الفجار

وهي الحروب التي وقعت بأرض الحرم في مكة وما حولها وانتهكت حرمتها، وقد وقعت ثلاثة من حرب الفجار في العام العاشر من ميلاد الرسولﷺ وسميت بالفجار الأول، ثم وقعت خمس منها في أربعة أعوام وكان عمر النبي ﷺ في ذلك الوقت بين الرابعة عشر والعشرين عاماً وسميت بالفجار الثاني.

وكان الفجار الأول ثلاثة أيام متفرقة بين قبيلتي (كِنانة وقيْس)

لأسباب جاهلية تتعلق بالتفاخر والعصبية، أو الإساءة لأمرأة في الأسواق أو لعدم سداد الديون.

ووقفت قريش مع قبيلة كنانة ضد قبائل من قيس مثل(بني عامر و هوازن) فوقعت بها دماء يسيره وانتهت بسرعة بفضل تدخل بعض عقلاء قريش مثل(حرب بن أمية، عبد الله بن جدعان، هشام والوليد ابني المغيرة) فدفعوا ديات القتلى.

وَتَكرَّر ذَلِك فِي الأعْوام التَّالية وكانتْ الحرْب بيْنهمَا لا غَالِب ولَا مَغلُوب لِتعادل اَلقُوة بَيْن الفريقيْنِ فَتَداعَى الفريقيْنِ لِلصُّلْح وفضَّلوا العفْو عن الدِّيَات وَنتَج عن تِلْك اَلحُروب اَلعدِيد مِن القتْلى وقد شَهِد الرَّسول ﷺ بَعْض أَيَّام اَلفُجار الثَّاني وَأَهمهَا اليوْم الرَّابع.

وقد قِيل أنَّ الرَّسول ﷺ حضر حَرْب اَلفُجار مع أعْمامه وَهُو فِي سِنِّ الرَّابعة عشر وقيل عِشْرين عامًا ولَا خِلَاف فِي ذَلِك لِأنَّ الحرْب اِمْتدَّتْ عدَّتْ سَنَوات.

كمَا قال صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم

(قد حضرتْه مع عُمومَتي ورميْتُ فِيه بِأسْهم ومَا أحب أَنِّي لَم أَكُن فعلْتُ).

ابن إسحاق

فلم يُشَارِك اَلنبِي صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم فِي العدْوان أو البغْي أو اِنتِهاك حُرمَة مَكَّة المكرَّمة والْأشْهر الحرم.

وَذلِك لأن دَورَه مع أعْمامه كان دِفاعِيًّا عِنْدمَا اِقْتحَمتْ هَوازِن وقيْس مَكَّة ولم تُرَاعِي حُرْمتَهَا.

حلف الفضول

حضره رسول الله ﷺ وكان بعد إنتهاء حرب الفجار بحوالي شهر.

وَكَان سِنُّ اَلنبِي عِشْرين عامًا وَهُو حِلْفٌ تَعَاقدَت فِيه قُرَيش وحلفائهَا على إِعادة النِّظَام والْأَمْن وَتوفِير الحماية لِلْقادمين إِلى مَكَّة، وحفْظ الحرمات وصيانة اَلحُقوق وَكَان السَّبب المباشر لعَقد هذَا الحلْف أنَّ رَجُلا مِن اليمن مِن زُبَيد باع تِجارة (لِلْعَاص اِبْن وَائِل اَلسهْمِي القريْشي) فلم يُعْطِيه حقُّه، فَصعِد الرَّجل جبل أَبِي قُبَيس حَتَّى يسْمعه النَّاس وأخْذ يَشكُو مظْلمَته، وسمعه زُعَماء قُرَيش فِي مَجلسِهم حَوْل الكعْبة فسارعوا لِنصْرَته.

فاجْتمع كُبَراء قُرَيش فِي دار النَّدْوة وَعلَى رَأسهِم (الزُّبَيْر بْن عَبْد اَلمُطلب) واتَّفقوا على التَّدَخُّل فِي المشْكلات لِإنْصَاف المظْلوم وَنُصرَة اَلضعِيف.

ثُمَّ اِتَّجهوا إِلى دارٍ (عَبْد اَللَّه بْن جُدْعان) فتحالفوا وتعاقدوا على ذَلِك، وقد حضر الرَّسول صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم هذَا الحلْف وَقَال

(شهدتُ حلفَ المُطَيَّبين وأنا غلامٌ معَ عمومتي ، فما أحبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ وأني أَنكُثُه).

حديث صحيح

وضع الحجر الأسود

شارك النبي صلى الله عليه وسلم قومه في إعادة بناء الكعبة وَذلِك أنَّ السُّيول اَلقوِية أصابتْ مَكَّة وصدعتْ بِنَاء الكعْبة وهدمتْ أَجزَاءً مِنهَا وَكَان ذَلِك بَعْد زَوَاج اَلنبِي صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم مِن خَدِيجَة رَضِي اَللَّه عَنهَا ب 10 سَنَوات.

فَأَرادَت قُرَيش أن تُشيد بُنْيانهَا وترْفع بابهَا حَتَّى لََا يَدخُلها إِلَّا من شَاءُوا ولكنَّهم خَافُوا وتردَّدوا مَهابَةً لِلْبيْتِ الحرَام حَتَّى تَقدمهم اَلولِيد بْن المغيرة، فَهدَم شيْئًا مِنهَا ونصحَهم أَلَّا يتشاجروا ولَا يتحاسدوا فِي بِنائِهَا وَألَّا يَدخُلوا فِي بِنائِهَا مالا حرامًا.

فهدمتْ قُرَيش البنَاء الأوَّل اَلذِي بنتْه جَرهُم وَكَان لََا يزيد عن طول الرَّجل إِلَّا قليلا وبلغوا الأسَاس الأوَّل أَسَاس إِبْراهيم عليْه السَّلَام ثُمَّ بنوْا فَوقُه، حَتَّى وَصلُوا إِلى مَوضِع الحجر الأسْود فاختلفوا فِي شَأنِه، وَأَرادَت كُلَّ عَشِيرَة أن تَرفعَه.

واشْتدَّ الِأَمر حَتَّى كَادُوا أن يقْتتلوا وَكَان أشدُّهم تحمُّسًا لِلْقتَال (بَنُو عَبْد الدَّار) فتحالفوا مع بَنِي عَدِي بْن كَعْب على الموْت.

فَظلَّت قُرَيش على خِلافِهَا أَربَع لَيَال أو خَمسَة، ثُمَّ اِجْتمعوا فِي اَلمسْجِد الحرَام لِلتَّشاور، فَأَشار عَليهِم بَعْض شُيوخِهم أن يحْتكموا إِلى أَوَّل مِن يَدخُل اَلمسْجِد فَكَان رَسُول اَللَّه صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم فاسْتبْشروا خيْرًا وقالوا (هذَا اَلأمِين رَضِينَا هذَا مُحمَّد). فَلمَّا عَرضُوا عليْه خِلافهم قال

(هلمُّوا آليًّا ثوْبًا)

رسول الله

فَأخَذ الحجر الأسْود فوضعه فِيه بِيَده الشَّريفة ثُمَّ قال

(لِتأْخذ كُلَّ قَبِيلَة نَاحِية مِن الثَّوْب ثُمَّ اِرْفعوه جميعًا).

رسول الله

ففعلوا حَتَّى إِذَا بَلغُوا بِه موْضعه وَضعُه بِيَده صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم وَبنَى عليْه، فَكَان البنَاء اَلجدِيد يَرتَفِع حواليْ ثَمانِية عشر ذِراعًا وَلَكنَّه أقلُّ مِساحة مِن بِنائِهَا السَّابق وجعلوا لِلْكعْبة بابًا مِن نَاحِية الشَّرْق.

عمل الرسول بالرعي والتجارة

بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في رعي الأغنام منذ طفولته، وكانت أول مهنة عمل بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يأكل من عمل يده فكان يرعى الغنم لأهل مكة ليحصل على المال والرزق وكانت مهنة رعي الغنم مهنة كل الأنبياء السابقين، وقد تعلم منها الصبر والرحمة والألفة والرعاية والعناية، والتمهل والرفق والعطف والحرص والمسؤولية، فعندما مات والد رسول الله ﷺ لم يترك له مالاً كثيراً (هو خمسة جمال وقطعة غنم، وجارية هي أم أيمن، وتدعى بركة، وكانت مربية النبي ﷺ قبل أن يذهب مع حليمة السعدية) هذا ما كان عند النبي محمد وتم إنفاقه علي تربيته ﷺ فكان أقرب إلى الفقر.

وكان جد رسول الله ﷺ وعمه أبو طالب يصرفان كل ما لديهم على الرفادة والسقاية وكما ان عمه أبو طالب كثير الأولاد، وعندما قارب النبي ﷺ سن الشباب، تطلع عمه إلى البحث عن عمل من أجله يناسب قدراته، ويحقق له رزقا أوسع، ووجد مراده في مهنة التجارة التي مارسها آباؤه وأشراف قومه، و توارثوا العمل بها والخبرة بأمورها.

وظلَّ يعْلمه ويدرِّبه على مُمارستهَا مُنْذ بلغ الثَّانية عَشرَة، فأخذه معه فِي رِحْلته التِّجاريَّة إِلى الشَّام ، ويبْدو أَنهَا كَانَت الرِّحْلة الوحيدة اَلتِي خرج فِيهَا مُحمَّد ﷺ مع عَمِّه.

وَلمَّا رأى أَبُو طَالِب تَعلق مُحمَّد ﷺ بِه صَمَّم على إِصطحابه ، وَقَال :

«وَاَللَّه لِأخْرجن بِه مَعِي، ولَا يُفارقني، ولَا أُفارِقه أبدًا»

البداية والنهاية لابن كثير

وعنْدَمَا وَصلُوا بَصرِي مِن أَرْض الشَّام، التقَوْا – مُصَادفَة – بِراهب فِي مَكَان عِبادَته يُطْلِق عليْه بَحِيرَا الرَّاهب وَاسمِه (جِرْجيس مِن أَهْل الكتَاب).

قِيل: كان مِن يَهُود تَيْماء، وقيل: بل نصْرانيًّا مِن عَبْد القيْس، وَهُو الأرْجح، وَكَان على عَلِم بِالْبشارات اَلتِي وَردَت فِي التَّوْراة، والْإنْجيل، عن مجيء مُحمَّد ﷺ كمَا ذكرْنَا سابقًا.

فَلمَّا تَحقَّق الرَّاهب بَحِيرَا مِن علامَات النُّبوَّة، وَعرَف صِفَات مَولِد مُحمَّد صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم ونسبه، فَبشَّر عمُّه بِنبُّوته، وحذَّره عليْه مِن اليهود، مِمَّا دعَا أبا طَالَب أن يُسْرِع فِي إِكمَال رِحْلته فِي أَقصَر وَقْت وَيرجِع إِلى مَوطنِه مَكَّة المكرَّمة.

وَكَان لِقَاء مُحمَّد ﷺ بِالرَّاهب بَحِيرًا لِقَاء عارضًا، حدث مُصَادفَة وَعلَى غَيَّر مَوعِد، ولم يَتَكرَّر بَعْد ذَلِك، وَكَان لَحَظات قِصَار فِي وُجُود عَمِّه وبعْض القرشيِّين المصاحبين لَه فِي رِحْلته.

مِمَّا يَنفِي مَزاعِم بَعْض المسْتشْرقين مِن أنَّ مُحَمدا ﷺ تَلقَّى عِلْمه مِن هذَا الرَّاهب اَلبعِيد اَلذِي يَسكُن الشَّام.

ولم يَترُك هذَا اللِّقَاء فِي نَفسِه ﷺ كبير أثر، ولم يَتَعلَّق بِهَذه النُّبوءة ولَا بِغيْرِهَا مِمَّا سَمعَه، بِدليل أَنَّه ﷺ لَم يَتَوقَّع النُّبوَّة، وَفوجِئ بِالْوَحْي، وظنَّ أَنَّه قد أصابه مَكرُوه، وَعَاد إِلى زَوجَته فزعًا.

وَفِي الخامسة والْعشْرين مِن اَلعُمر أَصبَح مُحمَّد ﷺ مُسْتعِدًّا لِأن يَستَقِل بِعمله، ويتحَمَّل مَصاعِب التِّجارة والسَّفر، وَلَكنَّه كان يَحْتاج إِلى رَأْس اَلْمال اَلذِي يُعَينه على ذَلِك، فَذهَب عمُّه أَبُو طَالِب إِلى سَيدَة مِن شريفَات مَكَّة هِي خَدِيجَة بِنْتْ خُويْلِد رَضِي اَللَّه عَنهَا يَعرِض عليْهَا أن تَأخُذ ابن أخيه ﷺ لِيتاجر لَهَا فِي مالهَا مُقَابِل أَجْر، وَهذَا مَا يُسمَّى (بالمضاربة المشروعة) طرف يُشَارِك بِماله، وَطرَف يُشَارِك بِجهده وخبرَته، مُقَابِل مالٍ يتَّفقَان عليْه، ويقال: إِنَّ خَدِيجَة كَانَت البادئة بِهَذا العرْض، وَهِي اَلتِي طَلبَت مِن اَلنبِي ﷺ أن يُتَاجِر لَهَا فِي مالهَا لِمَا سمعْته مِن صِدْق حَديثِه، وَعظَم أمانَته، وَكرَم أخْلاقه.

وَروَى الواقدي أنَّ خَدِيجَة رَضِي اَللَّه عَنهَا بلغهَا حديث أَبِي طَالِب إِذ قال لِابْن أخيه:

(أنَا رَجُل لََا مال لِي، وقد اِشْتدَّ الزَّمَان عليْنَا، وَعدَت عليْنَا سَنَوات صَعبَة وليْس لَنَا مَادَّة ولَا تِجارة، وَهذِه عِير قَومِك قد حان خُروجهَا إِلى الشَّام، وَخَديجَة تَبعَث رِجالا مِن قَومِك يُتاجرون فِي مالهَا ويصيبون مَنافِع، فِلو جِئْتهَا لِفضّلَتك على غَيرِك)

الواقدي

فَلمَّا بِلغهَا أَرسَلت إِلَيه لِعلْمِهَا قَبْل هذَا بِصدقه وأمانته، وقالتْ لَه :أنَا أُعطِيك ضعف مَا أعطى رجل مِن قَومِك.

وَكَان عمُّه يَتَخوَّف عليْه مِن اليهود، فَقَال لَه:

«إِنِّي أَكرَه أن تَأتِي الشَّام ، وَأَخاف عليْك مِن اليهود، وَلكِن لََا نجد من ذَلِك بداً»

أبو طالب

وأوصى بِه أَهْل العير خيْرًا، وَخرَج اَلنبِي ﷺ لِلْمرَّة الثَّانية إِلى الشَّام، وَكَان الرُّهْبان ينْتشرون على مشارفهَا، فَحدَث لَه مِثلَما حدث فِي المرَّة اَلأُولى.

فقد كان أَهْل الكتَاب يترقَّبون ظُهُور اَلنبِي المنْتظر بعْدمَا ظَهرَت لَهُم علاماته، وَتَعرَّف عليْه رَاهِب آخر يُدعَى (نِسْطورا) عِنْدمَا رأى الغمامة تُظَلله، ورآه يَأوِي إِلى ظِلِّ شَجرَة نزل تَحتهَا قبله الأنْبياء، وَسأَل عَنْه ميَسرَة غُلَام خَدِيجَة اَلذِي كان بِصحْبَته، وَقَال: هُو نَبِي، وَآخَر الأنْبياء، ورآه آخرون مِن أَهْل الكتَاب لََا يَحلِف بِاللَّات والْعزَّى ولَا بِغيْرهمَا مِن اَلآلِهة، فَقَال أَحدُهم لِميسَّرة : «هذَا وَاَللَّه نَبِي تَجده أحْبارنَا مَوصُوفا فِي كُتبهم».

وَكَان حديث(نِسْطورا، والرَّجل الكتابيُّ مع ميسرة) مُجرَّد كلمات معدودات، ولم يَأتِي أَنهُما تَحدثَا إِلى مُحمَّد ﷺ بِكلمة وَاحِدة، مِمَّا يَنفِي أيضًا مَا يتزعَّمه بَعْض المعرضين مِن المستشرقين.

واشترى مُحمَّد ﷺ تِجارة لِخديجة مِن الشَّام فباعتهَا فِي أَسوَاق مَكَّة بِمَا يُقَارِب ضعف ثمنها، مِمَّا يُؤكِّد جَودَة بِضاعتهَا، واعتدال سِعْرهَا، وَأَمانَة اَلنبِي ﷺ ومهارته فِي التِّجارة.

زواج الرسول من خديجة بنت خويلد رضي الله عنها

كَانَت (خَدِيجَة بِنت خُويلِد بن أسد بن عَبْد اَلعُزى بن قُصَي) مِن أَعظَم بُيُوت قُرَيش، فَهِي مِن بَنِي أسد، وَهُم حيٌّ كبير، مِنْهم «حكيم بْن حِزَام الصَّحابيِّ، وَورقَة بْن نَوفَل،والزُّبيْر بْن اَلْعَوام» وكانوا يعرفون بِأنَّهم أَهْل الوفَاء وَالجِلد، لِذَلك كَانُوا يقولون فِي الجاهليَّة : «أَقبَلت بَنُو أسد، أَهْل الوفَاء وَالجِلد»

وكانتْ خَدِيجَة قُرَشيَّة اَلأُم أيْضًا، فأمَّهَا (فَاطِمة بِنْت زَائِدة مِن بَنِي عَامِر اِبْن لُؤَي)، وكانتْ خَدِيجَة امرأَة حَازِمة جَادَّة شَرِيفَة، وَهِي أَوسَط قُرَيش نسَباً، وأعظمهم شرفًا، وأكْثرهم مالا، وكانت تُدعَى قَبْل البعْثة (الطَّاهرة).

وَتَزوجَت قَبْل اَلنبِي ﷺ مرَّتيْنِ مِن(أَبِي هَالَة بْن زُرَارَة اَلتيْمِي، وعتيق بن عَائِذ المخْزوميَّ).

وتخْتَلف المصادر فِي أَيهِما تَزَوجهَا أوَّلا، وَأَنجبَت مِن أَبِي هَالَة لَم تَذكُر المصادر عَنهَا شيْئًا غَيْر اِسمهَا، تُدعَى هِنْدًا، وَتوُفيت صَغِيرَة.

وورثتْ خَدِيجَة مِن زوْجيْهَا السَّابقين، وَمِن أَبِيهَا ثَروَة، استطاعت أن تُنَميهَا بِالتِّجارة حَتَّى صَارَت مِن ثريَّات قُرَيش، وَرغِب الكثيرون مِن سَادَة قُرَيش أن يتزوَّجوا مِنهَا لَكِنهَا رفضتْهم جميعًا، وكانتْ خَدِيجَة تَسمَع عن مُحمَّد ﷺ لِشهْرَته فِي قَومِه بِالصِّدْق والْأمانة.

ثُمَّ بلغهَا مُحَاورَة عَمِّه لَه لِيعْمل عِنْدهَا، ثُمَّ جاءتْهَا اَلفُرصة لِكيْ تَطابُق مَا سُمعَت على مَا رأتْ حَيْث عَرفَت مُحَمدًا ﷺ عن قُرْب، وَسمعَت مِن غُلَامهَا ميَسرَة مَا أسْعدَهَا ثُمَّ رأت نجاحه فِي عَملِه، وَتوفِيق اَللَّه لَه، فكسبتُ من تِجارته ضِعْف مَا كان يكسبه غَيرُه مِمَّن عَملُوا عِنْدهَا، ورأته وَهُو دَاخِل مَكَّة على بَعيرِه سَاعَة الظَّهيرة والْغمامة تُظَلله، وَدخَل عليهَا فأخبرهَا بِمَا رَبِح فِي تِجارَته فسَّرهَا حديثه، فامتَلأ قَلبُها تقديرًا لَه، ورغبت فِي الزَّوَاج مِنْه ﷺ.

كيف خطب الرسول خديجة رضي الله عنها

وكانت خَدِيجَة رَضِي اَللَّه عَنهَا سَبَّاقة إِلى عَرْض الزَّوَاج على النبِي ﷺ ووجدت لِذَلك طريقًا حسنًا، فَأَرسلَت إِلَيه صديقتهَا (نَفِيسَة بِنْتُ أُميَّة بْن أَبِي عُبيْدَة التَّميمي) لِتعْرف رَأيَه، وَتكُون رسولا بينهَا وبينه، فسألَتْه

يَا مُحمَّد، مَا يمنعك مِن الزَّوَاج؟

قال: «مَا بِيَدي مَا أَتزَوج بِه»، فقالتْ لَه: فَإِن كفيْتَ ذَلِك، وَدُعيَت إِلى الجمَال والْمَال والشَّرف والْكفاءة أَلَّا تُجيب؟

قال: «فمن هِي؟»

قَالَت: خَدِيجَة

قال: «وكيْف لِي ذَلِك؟»

قَالَت: أنَا سأخْبرهَا فذهبتْ إِليْهَا وأخْبرتْهَا، فحدَّدتْ لَه موْعدًا لِخطْبتهَا مِن أَهلِها.

رسول الله

وَفِي رِواية اِبْن هِشَام أنَّ خَدِيجَة حَدثَت اَلنبِي ﷺ مُبَاشرَة، وقالتْ لَه:

«يَابِن عم إِنِّي رَغبَت فِيك لِقرابتك، وشرفك فِي قَومِك، وأمانتك وَحُسن خُلُقك، وصدْق حَديثِك»

ابن هشام

والجَمْع بَيْن الرِّوايتيْنِ مُمْكِن، أن تَكُون عَرضَت عليْه نَفسُها بَعْد أن عَلمَت مِن نَفِيسَة مُوافقته.

وَكَان هُنَاك خِلَاف على سِنِّ السَّيِّدة خَدِيجَة عِنْد زَواجِها اَلنبِي ﷺ، وقد ذكر”اِبْن كثير” الرِّوايات المخْتلفة اَلتِي تَحدثَت عن ذَلِك، فقيل: إِنَّ عُمرَهَا كان خمْسًا وَعشرِين سنة وقيل: خمْسًا وثلاثين، وقيل: أَربعِين، وعليْه أَكثَر الرِّوايات، وقيل خمْسًا وأرْبعين، أُمًّا عن سِنِّ الرَّسول ﷺ وَقتُها فلَا خِلَاف أَنَّه ﷺ كان فِي الخامسة والْعشْرين.

وَعَاش الرَّسول ﷺ مع خَدِيجَة رَضِي اَللَّه عَنهَا حَيَاة زَوجِية مُسْتقِرَّة، تحقق فِيهَا السَّكن، وقامت على اَلْمَودة والرَّحْمة، وأنْجب مِنهَا كُلَّ أوْلاده عدَا إِبْراهيم، وَكَان بَيْن الأبْن والْآخر سنة.

اولاد رسول الله وَهُم أَربَعة

  1. أكْبرهم القاسم، بلغ سِنَّ الشَّبَاب حَتَّى كان يَركَب الدَّابَّة، ثُمَّ تُوفِّي بَعْد النُّبوَّة فِي أَكثَر الرِّوايات، وقيل: مات رضيعًا.
  2. زَينَب
  3. رُقيَة
  4. ثُمَّ فَاطِمة
  5. أُم كُلْثُوم

وقد تُوفِّين فِي حَيَاة الرَّسول ﷺ عدَا فَاطِمة اَلتِي تُوُفيَت بَعْد وَفَاة الرَّسول ﷺ بِستَّة أَشهُر، وَولِد لَه بَعْد البعْثة عَبْد اَللَّه، وَكَان يُسمَّى أيْضًا بِالطَّيِّب والطَّاهر، لِأَنه وُلِد فِي الإسْلام، وَتوُفي وَهُو بْن سنتيْنِ بِمَكة المكرَّمة.

ولم يَتَزوَّج اَلنبِي ﷺ غَيْر خَدِيجَة حَتَّى تُوُفيَت فِي اَلْعام العاشر مِن البعْثة، فَعَاش مَعهَا خمْسًا وَعشرِين سنة فِي سَعادَة كَامِلة.

وَساعده هذَا الاسْتقْرار العائليِّ على التَّحَنث (أيْ يَعتَكِف وينْقَطع لِلْعبادة والتَّأمُّل) فِي غار حِرَاء شهْرًا فِي كُلِّ سنة فِي السَّنوات السَّابقة لِلْبعْثة حَتَّى نزل عليْه الوحْي، وكانتْ خَدِيجَة تَعظم اَلنبِي ﷺ وتصدِّق حَدِيثَه قَبْل البعْثة وَبَعدهَا، ووهبتْ لَه بَعْد زواجهمَا غُلَامهَا زَيْد بْن حَارِثة لِمَا رأتْ مَيلَه إِلَيه.

وكانتْ خَدِيجَة رَضِي اَللَّه عَنهَا وزير صِدْق وخيْر عَوْن لِلنَّبيِّ ﷺ فِي تَحمُّل مَشَاق دَعوَتِه، وَأذَى المشْركين، وكانتْ تَتصِف بِالْحكْمة وَسَداد الرَّأْي.

وعنْدَمَا نزل الوحْي أَوَّل مَرَّة على اَلنبِي ﷺ وَجَاءهَا خائفًا، قيل: إِنَّها أَرسَلت رُسُلا فِي طَلبِه لما تَأخَّر عَنهَا حَتَّى بَلغُوا أَعلَى مَكَّة، فهدأتْ مِن رَوعِه، وبشرَته بِالنُّبوَّة وذهبتْ تَستشِير أَهْل العلْم، واتَّجَهتْ إِلى اِبْن عَمهَا وَرقَة بْن نُوفَل الأسَدي، فوجدتْ عِنْده مَا يُطمْئنهَا، وَتقِر بِه عَينُها، ثُمَّ قَامَت بِاخْتبار بُرْهان الوحْي، فطلبتْ مِن اَلنبِي ﷺ أن يُخْبرَهَا إِذَا جَاءَه مَلك الوحْي، فَلمَّا أخْبرَهَا أَلقَت خِمارَهَا فاخْتَفى، فقالتْ: يَا اِبْن عمِّ اُثبُت وَأبشِر وَاَللَّه إِنَّه لملك ومَا هذَا شَيْطان.

واستدلَّت خَدِيجَة رَضِي اَللَّه عَنهَا مِن أَعمَال الرَّسول ﷺ وفضائله أنَّ اَللَّه سينْصره، ولن يَخذُله، وقالت لَه:

«إِنَّك تَصِل اَلرحِم، وتصدِّق اَلحدِيث، وتحمل اَلكُل، وَتَعين على نَوائِب الدَّهْر، وَاَللَّه لَن يُخْزِيك اَللَّه أبدًا».

خديجة رضي الله عنها

وَكَان الرَّسول ﷺ يُثْنِي على خَدِيجَة فِي حَياتِها، وبعْد مَماتِها، وبشْرهَا بِأنَّ اَللَّه قد جعل لَهَا بيْتًا فِي الجنَّة مِن قصب، لََا صخب فِيه ولَا نصْب، كمَا ورد فِي الصَّحيحيْنِ، وَقَال فِي حَديثِه ﷺ لِابْنَته فَاطِمة:

«خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بنْتُ خُوَيْلِدٍ.»

صحيح مسلم

كمَا ذكر ﷺ أنَّ فَاطِمة هِي سَيدَة نِسَاء العالميْنِ، ويفْهم مِن ذَلِك – كمَا يَقُول اِبْن حجر – أنَّ كُلًّا مِنْهنَّ كَانَت خَيْر النِّسَاء فِي زمنهَا، أو يَحمِل على التَّفْرقة بَيْن السِّيادة والْخيْريَّة.

وَكَان اَلنبِي ﷺ يُكْثِر مِن ذِكْر خَدِيجَة بَعْد وَفاتِها، ويكْثر مِن الثَّنَاء عليْهَا حَتَّى غَارَت مِن ذِكْراهَا بَعْض زوْجاته، تَقُول عَائِشة رَضِي اَللَّه عَنهَا:

«كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ».

حديث صحيح

وَكَان حُزْن اَلنبِي ﷺ على وَفَاة خَدِيجَة عظيمًا، فقد سألتْه خَولَة بِنْتُ حكيم:

كأنِّي أَرَاك دخلَتَك حُلَّة لِفَقد خَدِيجَة؟ قال : «أَجْل، كَانَت أُمُّ العيَال، وَربَّة البيْتُ».

خولة بنت حكيم

عبادة الرسول قبل الإسلام

كان النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا موحدًا يعبد الله وحده لا شريك له وهذه هي فطرة الإسلام التي فطره الله عليها، فكان يرفض الشرك ولا يحب عبادة قومه وكان ﷺ ينهي (زيد بن حارثه) من التقرب والتعبد وتعظيم الأصنام، فكان ﷺ يترك عبادة قومه ويذهب إلي غار حِرَاء لِيتعَبَّد فِيه على دِين سيِّدنَا إِبْراهيم عليْه السَّلَام وَكَان يَتَعبَّد شهْرًا مِن كُلِّ سنة (شَهْر رَمَضان) فيعْتَكف فِي اَلْغار وَيقُول اِبْن كثير:

«إًنَّ هذَا كان عَادَة المتعبِّدين فِي قُرَيش، إًنَّهم كَانُوا يُجاورون فِي حِرَاء لِلْعبادة».

ابن كثير البداية والنهاية

كمَا كان اَلنبِي صَلَّى اَللَّه عليْه وَسلَّم، دَائِم التَّفْكير فِي خَلْق اَللَّه، وإبْداعه فِي الكوْن، وإبْداعه أيْضًا فِي خَلْق الحيوانات والنَّباتات والْجماد فِي الكوْن وَمِنهَا الجبَال والسَّموات والْأَرْض.

وقيل: إِنَّ بَعْض أَجدَاد اَلنبِي ﷺ كَانُوا يتحنثون، (أيْ يتعبَّدون) ومنْهم جُدَّة عَبْد اَلمُطلب، فالرَّسول ﷺ كان يُحِب الخلَاء والانْفراد عن قَومِه، لِمَا يراهم عليْه مِن الضَّلَال اَلمُبين، مِن عبادة لِلْأصْنام، والسُّجود لِلْأوْثان، وَقَويَّة مَحبته لِلخلوة عِنْد دُخوله على سِنِّ الأرْبعين.

وحراء جبل على بعْد ثَلاثَة أَميَال مِن مَكَّة المكرَّمة، فِي طريق مِنى، وليْس بِهمَا نَبَات ولَا ماء، ولذَلِك كان اَلنبِي ﷺ يَتَزوَّد، وَيحمِل معه مَا يَكفِي حاجته مِن طَعَام وَشَراب.

كان عليه الصَّلَاة والسَّلام يَأتِي غار حِرَاء فيتحنث فِيه – أيْ يَتَعبَّد – اللَّيالي ذَوَات العدد، ويأخذ معه زادَه لِذَلك، ثُمَّ يَرجِع إِلى خَدِيجَة فتزوِّده بِمثْلِهَا.

ابن الجوزي

وَكَان ﷺ أَثنَاء اِعْتكافه يُطْعِم من يَمُر بِه مِن المساكين، فَإذَا اِنتهَى مِن عِبادَته عاد إِلى مَكَّة المكرَّمة فَطَاف بِالكعبة المشرفة سَبعَة أَشوَاط قَبْل أن يَدخُل بَيتُه.

وكانت حَيَاة الرَّسول ﷺ الأسريَّة تُساعِده على هذَا الانْقطاع فِي اَلْغار، لأنه كان يعيش حَيَاة زَوجِية مُسْتقِرَّة، فَكَان يَجِد مُتسَع مِن الوقْتِ يَسمَح لَه بِالاعْتكاف وَكَان يَترُك أوْلاده، مُطْمئِنًّا عَليهِم فِي يد زَوجَة رَاعِية أَمِينَة.

فالفطرة السليمة هي التي قربت الرسول ﷺ لعبادة إله واحد لا شريك له، وَإلَى جَانِب الفطرة كان إِلهَام اَللَّه وعصمته لِلنَّبيِّ ﷺ، فحماه اَللَّه مِن البدع والمستحدثات، وهداه إِلى تَعالِيم إِبراهيم، واستطاع أن يُميِّز المناسك والشَّعائر الصَّحيحة مِن بَاطِل الوثنيَّة، وانحرافات الجاهليَّة، فَكَان ﷺ يُعظِّم البيت والحرمات، وَيطُوف سبْعًا، ويسعى بَيْن الصَّفَا والمروة غَيْر نَاظِر لِمَا عَليهِما مِن أَصنَام، مُلْتزِمًا مَناسِك اَلحَج، فَكَان يَقِف بِعرفَات اَلتِي تَركَت قُرَيش اَلوُقوف بِهَا، والتَزم اَلبَر، ومكارم الأخلاق، وَبعد عن الأنصاب والأزلام والخَمر والميسر وَغيرِها مِن المنكرات.

وقد تَقُود الفطرة إِلى حَرَكات تِلقائيَّة فِيهَا تَعظِيم وإجلَال لِلمولى سُبحانه، مِن ورع وَسجُود، ودعاء وتضرُّع قِيامًا وَقعُودًا وعلى الجنوب، يَتَوجَّه فِيهَا بِوجهه وَقلبه إِلى بَيْت اَللَّه الحرَام، وَإلَى الحرص على طَهارَة الجسم والثَّوب والقَلب، وتجنُّب الخبائث.

الختام

هذه هي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئا ويطعم الفقير والمسكين ويرحم الصغير قبل الكبير بالفطرة السليمة.

ما هي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

وُلد رسول الله ﷺ في مكة في عام الفيل وكانت حياته صعبة في صغره لأنه كان يتيما ولم يترك له أبوه مالاً كثيراً فعمل منذ صغره فلما بلغ من العمر خمسة وعشرين سنة تزوج بالسيدة خديجة وأنجب منها كل أبناءه ماعدا إبراهيم وكان يتعبد في غار حراء ليالي عديدة ويبعد عن قومه فلم أتم الأربعين من عمره نزل عليه الوحي وهو في الغار ثم سار يدعو إلي الله ويؤدي رسالته على أكمل وجه وصبر على إيذاء قومه له وتحمل كل الصعاب من أجل إعلاء كلمة الله في مكة ومن يجاورها ثم هاجر الى المدينة (يثرب) وهو في الثالثة والخمسين من العمر بسبب تأمر سادات قريش عليه وعلى المسلمين حتى أرادوا قتله ﷺ فعاش بالمدينة داعياً الي الله عشر سنوات وأسس بها نواة الحضارة الإسلامية التي شملت كل المدن والقبائل العربية ثم انتقل الحبيب ﷺ إلي الرفيق الأعلى بعد حجة الوداع.

ماذا كان يفعل الرسول قبل نزول الوحي؟

كان رسول الله ﷺ يتعبد ويتحنث في غار حراء بعيداً عن أفعال قومه وعباداتهم التي لا تنفع ولا تضر فكان ﷺ يتعبد على دين أبينا إبراهيم عليه السلام.

كم سنة مرت على موت سيدنا محمد؟

توفي رسول الله ﷺ سنة 11هجريا و 632 ميلادي ونحن اليوم سنة 1444 هجريا، فقد مر على وفاته صلى الله عليه وسلم 1433سنة و 1391 سنة ميلاديه.

كيف كانت حياة الرسول وهو صغير؟

توفي والده (عبدالله) ورسول الله ﷺ في بطن أمه ثم توفيت أمه وهو صغير فأخذه جده (عبد المطلب) واهتم بتربيته ثم توفي جده وهو في الثامنة من عمره ﷺ فأخذه عمه (أبو طالب) ليعيش معه وكان يحبه مثل أولاده ويحنو عليه وكانﷺيحب العمل من صغره فكان يرعى الغنم للقوم مقابل أجر، وكانت حياته مليئة بالبشارات في صغره.

مقالات ذات صلة

https://ar.islamway.net/article/21963/%D9%82%D8%A8%D8%B3-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B9%D8%AB%D8%A9

https://www.islamweb.net/ar/article/14578/%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9%D9%8C-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B9%D8%AB%D8%A9

https://islamonline.net/%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D8%B5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87-%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%85-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B9%D8%AB/

https://mawdoo3.com/%D9%83%D9%8A%D9%81_%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA_%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84_%D9%82%D8%A8%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B9%D8%AB%D8%A9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top