تمت بيعة معاوية بن أبي سفيان عندما تنازل الحسن بن علي له عن الخلافة، فأصبح أميراً للمؤمنين سنة 41 للهجرة، وسميت هذه السنة بعام الجماعة، لتوحيد صفوف الأمة الإسلامية من جديد، وتجمعهم على زعامة معاوية.
انتهاء عصر الخلفاء الراشدين
انتهى زمن الخلفاء الراشدين القائم على منهاج النبوة عندما تنازل الحسن بن علي لمعاوية بالحكم، فقد قال رسول اللہ ﷺ: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عارضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء ثم تكون خلافة على منهاج النبوة».
فقد وضح رسول اللہ ﷺ: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه من يشاء»، وقوله ﷺ: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك».
فقد تمت الخلافة الثلاثون بخلافة الحسن، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة 41، ورسول الله ﷺ قد توفي سنة 11 للهجرة، فبدأت الخلافة من هذه السنة، حتى انتهت سنة 41 للهجرة، وهذا من دلائل النبوة، فقد أشار الحديث النبوي إلى مراحل تاريخية وهي:
- عهد النبوة.
- عهد الخلافة الراشدة.
- عهد الملك العضوض.
- عهد الملك الجبري.
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.
وقد وضح رسول اللہ ﷺ بأنه ستكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملكاً ورحمة، ويمكن تسمية من جاؤوا بعد الخلفاء الراشدين بالخلفاء وإن كانوا ملوكاً، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة عن رسول اللہ ﷺ قال: «كانت بنو إسرائيل يحكمهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «وفوا بيعة الأول، فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم».
فقوله: «فتكثر» دليل على من غير الراشدين، فإنهم لم يكونوا كثيراً، وقوله: «وفوا بيعة الأول فالأول» يدل على أنهم يختلفون، والراشدون لم يختلفوا، وقوله: «فأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» يدل على مذهب أهل السنة، في إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم، فمعاوية أفضل ملوك هذه الأمة، والذين كانوا قبله خلفاء نبوة، فقد تحول نظام الحكم من خلافة إلى ملك، وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيراً من ملك غيره، على الرغم من أن معاوية كان عالماً ورعاً، إلا أنه غير نظام الحكم عما كان عليه في عهد الخلفاء الراشدين، فإمارته وإن كانت صحيحة بإجماع الصحابة وتسليم الحسن، إلا أنها ليست على طريقة خلافة من قبله، فقد توسع في المباحات، وتحرز عنها الخلفاء الأربعة، وقد ذكر ابن خلدون مدى التغير الذي حدث، فقال بالرغم من التغير الذي حدث، إلا أنه بقيت بعض معاني الخلافة، فقد كان التغير في الوازع الديني، الذي انقلب إلى عصبية وسيف: (يقصد بذلك أنه بعد أن كان الناس يتصرفون بدافع الدين، والخلافة شورى، صار الحكم مأخوذاً من العصبية والقوة، ولكن مقاصد وأهداف الخلافة ظلت كما كانت عليه سابقا، أي أن غايات هذا الملك كان لا تزال تحقيق مقاصد الدين والحكم وفق الشريعة الإسلامية بالعدل وتنفيذ الواجبات التي يأمر بها الإسلام.
ثم لخص المراحل التي مرت بها الخلافة، فقال: إن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً، ثم اختلطت معانيها واختلطت بالملك، ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبية الخلافة والله مقدر الليل والنهار.
فكان هذا تفسير ابن خلدون للتطور الذي حدث والأدوار التي مرت بها الخلافة.
فالخلافة في العصر الأول كانت هي الخلافة الكاملة المثالية، ثم نقصت من وجه أو بعض الوجوه، لكن معظم عناصره ظلت، فهي خلافة أقل في الرتبة أو خلافة مختلطة بالملك، والرأي العام في الإسلام متمسك بخلافة النبوة، تلك التي تقوم على الشورى والاختيار التام من الأمة، ومهما كانت الظروف الحالية والعوامل الاجتماعية قد أدت إلى هذا التغيير، ينبغي عند انتهاء تلك العوامل العودة إلى خلافة النبوة الكاملة.
ومن ثم ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وصار ملكاً ظهر النقص في الأمراء، وانقرض الصحابة وكذلك في أهل العلم والدين مع انتهاء خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يظل أحدا من أهل بدر إلا عدد قليل جداً.
أهم صفات معاوية:
كان لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان العديد من الصفات من أهمها:
- العلم والفقه:
فقد استفاد معاوية من مصاحبته لرسول اللہ ﷺ علماً وتربية، وروي عن رسول اللہ ﷺ أحاديث كثيرة قد ذكرت بعضها، وقد روى له البخاري ومسلم، وشهد له ابن عباس بالفقه، فعن ابن أبي مليكة قال: قيل لابن عباس: (هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه)، رواه البخاري.
كما أنه كان كاتب رسول اللہ ﷺ وذكره مفتي الحرمين أحمد بن عبد الله بن محمد الطبري في خلاصة السير، «إن كتابه ﷺ ثلاثة عشر: الخلفاء الأربعة وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أرقم، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسلمي، وزيد بن ثابت، ومعاوية ابن أبي سفيان، وشرحبيل ابن حسنة، وكان معاوية وزيد ألزمهم لذلك وأخصهم به».
وكان الفقهاء يعتمدون على اجتهاده، ويتكلمون عن مذهبه مثل الصحابة جميعها، كقولهم: «ذهب معاذ بن جبل، ومعاوية وسعيد بن المسيب إلى أن المسلم يرث الكافر».
وقال أبو الدرداء الصحابي لأهل الشام: «ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول اللہ ﷺ من إمامكم هذا»، يعني معاوية.
كما كان حريصاً على تعليم الناس العلم، فعن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: «سمعت معاوية ابن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن قال: الله أكبر الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال معاوية: وأنا، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال معاوية: وأنا. فلما انتهى الأذان قال: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله يقول خلف الصلاة، على هذا المجلس حين أذن المؤذن يقول ما سمعتم مني من مقالتي».
كما كان يحث الناس على الفقه في الدين، ويروي لهم الأحاديث الدالة على أهمية التفقه في الدين، فعن الزهري قال: أخبرني حميد قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطب قال: سمعت النبي ﷺ یقول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً، حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله».
وكان يكاتب أصحاب الرسول ﷺ ليتعلم منهم ما سمعوه من رسول اللہ ﷺ، فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: «كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي ما سمعت من النبي، فأملى علي المغيرة، قال: سمعت النبي ﷺ یقول خلف الصلاة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد».
وكان حريصاً على اتباع السنة النبوية، فعن سعيد بن المسيب، وعن حمد بن عبد الرحمن بن عوف: «أن معاوية لما قدم المدينة في آخر مقدمة قدمها، قال على منبر رسول اللہ ﷺ: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول اللہ ﷺ في هذا اليوم – يوم عاشوراء – يقول: «من شاء منكم أن يصومه فليصمه» وفي رواية: «وإني صائم، فصام الناس».
وهناك الكثير من الأحاديث والروايات التي توضح حرص أمير المؤمنين معاوية على طلب العلم والتفقه في الدين، وحث رعيته على ذلك.
- الحلم والعفو:
اشتهر أمير المؤمنين معاوية بصفة الحلم كما كان يضرب به المثل في حلمه، وكظم غيظه وعفوه عن الناس، وقد ذكر ابن كثير ذلك، حيث قال: «وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلاماً سيئاً شديداً، فقيل له: لو سطوة عليه، فقال: إني لأستحي من الله أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي».
وفي رواية قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك!! فقال: إني لأستحي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي».
وذكر عن حلمه الأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى كذلك.
وقد أرسل معاوية إلى نائبه زياد: إنه لا ينبغي أن يقاد الناس سياسة واحدة باللين، يفعلوا ما يحلو لهم، ولا بالشدة، فيؤدي بالناس إلى المهالك، ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأنا للين والألفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد باباً يدخل منه.
فكل هذه الأقوال التي وصلت لنا عن أمير المؤمنين معاوية توضح لنا بعضاً؛ مما اشتهر به من الاتصاف بخلق الحلم، وقد كان هذا الخلق حلقة الوصل بينه وبين من يعاملونه بشدة وجفاء من أفراد رعيته، أو يصارحونه بقوة بما يرونه حقاً، وهو يخالفهم في ذلك، وكانت تلك الصفة أثراً في نجاحه في تثبيت أركان دولته، وذلك بمقدرته الفائقة على امتصاص غضب المخالفين، وتحويلهم إلى الرضى والقناعة بسياسة، فالحلم والعفو والصبر والكرم من أهم عناصر القيادة.
- الذكاء والحيلة:
ومن الصفات التي تفضل بها معاوية، صفة الذكاء والحيلة، ومما يروى من ذكائه وحسن إدارته وتدبيره، (أن المسلمين غزوا عصره، فأسر فرقة منهم، فوقفوا بين يدي ملك الروم، بقسطنطينية، فتكلم بعض أسارى المسلمين، فاقترب منه بعض البطارقة، ممن كان واقفاً بين يدي الملك، فضربه على وجهه، وكان رجلاً من قريش فصرخ: واإسلاماه أين أنت عنا يا معاوية؛ إذ أهملتنا وأضعت ثغورنا، وحكمت العدو في دمائنا وأعراضنا.
فانتشر ذلك الخبر حتى وصل إلى معاوية، فأحس معاوية بألم شديد، وابتعد عن الناس، ثم امتنع من ما اشتهى من الطعام والشراب، ثم عمل الحيلة في إقامة الفداء بين المسلمين والروم، حتى فدى ذلك الرجل، وجميع أسرى المسلمين، فلما أصبح الرجل داخل دار الإسلام، دعاه معاوية فأحسن إليه، ثم قال له: (لم نهملك، ولم نضعك، ولا أبحنا دمك وعرضك.
ومعاوية في أثناء ذلك يدبر الرأي، ويعمل الحيلة ثم أرسل إلى واحد من ساحل دمشق من مدينة «صور»، فأحضره واجتمع به في خلوة، وأخبره بما قد عزم عليه، وسأله إعمال الحيلة فيه والصبر عليه، فوافق الرجل مقابل أن يدفع له معاوية مالا كثيرا، فأنشأ له مركباً سريعاً لا يدرك في سيره، إنشاء عجيباً، فمشى الرجل حتى وصل مدينة قبرص، فاتصل برئيسها وأخبره أن معه حاجة إلى الملك، وأنه يريد التجارة إلى القسطنطينية، قاصداً إلى الملك، فروسل الملك بشأنه، فأذن له، فدخل خليج القسطنطينية، فلما وصلها أهدى للملك وجميع بطارقته، وبايعهم وشاراهم، وقصدهم، إلا ذلك البطريق الذي لطم القرشي، وتأنى الصوري من الأمور على حسب ما رسمها له معاوية، وأقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام، وقد أمره أكثر البطارقة أن يبتاع حوائج ذكروها، وأنواعاً من الأمتعة وصفوها، فلما وصل إلى الشام سار إلى معاوية سراً، وذكر له كل ما حدث هناك، فابتيع له ما طلب منه وما علم أن رغبتهم فيه، وتقدم إليه معاوية فقال: إذا أحضرت هذا البطريق إلى قفصك، سيعاتبك على تقصيرك في الاهتمام ببره والاعتماد عليه، لذا قم بالاعتذار له وأحسن معاملته بالكلمات اللطيفة والهدايا، واجعله القيم بأمرك والتفقد لأحوالك، تزداد عندهم، فإذا تصرفت كما أمرتك، وعلمت ما أراد البطريق وإيش الذي يأمرك بابتياعه فعد به إلينا لتكون الحيلة على حسبه.
فلما رجع الصوري إلى القسطنطينية ومعه جميع ما طلب منه والزيادة مما لم يطلب زادت منزلته، وارتفعت أحواله عند الملك والبطارقة وجميع جنود الملك، فلما كان في بعض الأيام، وهو يريد الدخول إلى الملك، قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك، وقال له: ما الذي فعلته معك؟ وبم استحق غيري أن تقصده وتقضي حوائجه وتعرض عني؟
قال الصوري: أكثر من ذكرت ابتدأني وأنا رجل غريب، وأرحل إلى هذا البلد كالمتنكر من أسارى المسلمين وجواسيسهم لكي لا يعرفوا أمري، فيكون في ذلك هلاكي، والآن قد علمت امرئ، فلست أحب أن يعتني بأمري غيرك، ولا يقوم بحالي عند الملك وغيره غيرك، فخُذْنِي عَلَى عَاتِقِك وَأَبْرِزْ لِي كُلَّ احْتِيَاجَاتِكَ، وَكُلَّ مَا تُوَاجِهُهُ مِنْ أَمُورِكَ هُنَا فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ، ثم أهدى إلى ذلك البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط والطيب والجوهر والطرف والثياب، وهو ما زال ينقل الأخبار إلى معاوية، حتى فات على ذلك سنين، فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري، وقد أراد الخروج إلى أرض الإسلام: (قد اشتهيت أن تعمدني بقاء حاجة، وتمن بها علي، وهي أن تبتاع لي بساط سوسنجرد بمخاده ووسائده، ويكون فيه من أنواع الألوان الحمرة والزرقة وغيرها، ويكون من صفة كذا وكذا، ولو بما بلغ ثمنه كل مبلغ، فأنعم له بذلك)، وكان من عادة الصوري أن يكون مركبة إذا أتى القسطنطينية بالقرب من مكان ذلك البطريق، وكان للبطريق قرية سرية، وفيها قصر مشيد، ومنتزه حسن على أمتار من القسطنطينية راكبه على الخليج، وكان البطريق أكثر أوقاته في ذلك المنتزه، وكانت القرية فيما بين قسم الخليج من يلي بحر الروم والقسطنطينية، فذهب الصوري إلى معاوية سراً، فأخبره بالحال، فأحضر معاوية بساطاً بوسائد ومخاد ومجلس حسن، فانصرف به مع جميع ما طلب منه من أرض الإسلام، وقد تقدم إليه معاوية بالحيلة، وكيفية إيقاعها.
وكان الصوري قد أصبح كواحد منهم، وفي الروم طمع وشره، فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية، وقد طابت له الريح، وقرب من قرية البطريق، حكى الصوري أخبار البطريق لأصحاب القوارب والمراكب، فأخبر أن البطريق في قريته، وذلك أن الخليج طوله نحو من ثلاثمائة وخمسين ميلاً، والضياع والعمائر على جانبيه، والمراكب تختلف، والقوارب بأنواع المتاع والأقوات إلى القسطنطينية من هذه العمائر كثرة لا تعد، فلما علم الصوري أن البطريق في قريته فرش البساط، ونضد ذلك الصدر والمجلس بالوسائد والمخاد في صحن المركب ومجلسه، والرجال تحت المجلس بأيديهم المقاذيف مشكلة قائمة غير قاذفين بها، ولا يعلم بهم أنهم في بطن المركب إلا من ظهر منهم في عمله والريح في القلع، والمركب مار في الخليج كأنه سهم خرج عن كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه لسرعة سيره واستقامته في جريه، فأشرفه على قصر البطريق وهو جالس في مستشرفة مع حرمه، وقد كان ساكرا، وعلاه الطرب، وذهب به الفرح والسرور كل مذهب، فلما رأى البطريق مركب الصوري صاح فرحا وسروراً وابتهاجا بمجيئه، فاقترب من أسفل القصر فحط القلع، وأشرف البطريق على المركب، فنظر إلى ما فيه من حسن ذلك البساط، ونظم تلك الفرش، كأنه بستان خلاب، فلم يستطع الوقوف في مكانه، حتى نزل قبل أن يخرج الصوري من مركبة إليه، فطلع إلى المركب، فلما استقر قدمه على المركب واقترب من المجلس، ضرب الصوري بعقبه على من تحت البساط، وكانت علامة بينه وبين الرجال الذين في بطن المركب، فما استقر دقه في المركب بقدمه، حتى اختطف المركب بالمقاذيف، وإذا هو وسط الخليج يطلب البحر لا يلوي على شيء، وارتفع الصوت، ولا يعرف ما الخبر لمعالجة الأمر، فلم يكن الليل حتى خرج عن الخليج وتوسط البحر، وقد أوثق البطريق كتافاً، وطابت له الريح، وأسعده الجد، وحمله المقدار في ذلك اللج، فتعلق في اليوم السابع بساحل الشام، ورأى البر وحمل الرجل، فكان في اليوم الثالث عشر مأسوراً بين يدي معاوية ففرح بذلك معاوية.
وقال: علي بالرجل القرشي، فأتي به وقد حضره أهم الناس، فأخذوا مجالسهم، وغص المجلس بأهله، فقال معاوية للقرشي: قم فأخذ حقك من هذا البطريق الذي ضربك على وجهك على بساط معظم الروم، فإنا لم نضعك ولا أبحنا دمك ولا عرضك، فقام القرشي وأقترب من البطريق، فقال معاوية: انظر لا تتعدى ما جرى عليك، واقتص منه على حسب ما صنع بك ولا تعتد، وارع ما أوجب الله عليك من المماثلة، فلطمه القرشي لطمات ووكزه في حلقه، ثم نزل القرشي على يدي معاوية وأطرافه يقبلها، وقال: ما ضاع من سؤدك، ولا خاب فيك من رأسك، أنت ملك لا يستضام، تمنع حماك وتصون رعيتك.
- عقليته الفريدة وقدرته على الاستيعاب:
امتاز معاوية بالعقلية الفريدة، فإنه كان يتمتع بالقدرة الفائقة على الاستيعاب، وكان يستفيد من الأحداث كلها التي يمر بها، ويعرف كيف يتحاشاها، وكيف يخرج منها إذا تورط فيها، وكانت خبراته الواسعة وممارسته لأعباء الحكم على مدى أربعين سنة، منذ ولاه عمر بن الخطاب على الشام، فكانت ولايته على الشام عشرين سنة أميراً، وعشرين سنة خليفة، فكانت هذه الفترة الطويلة التي تنقل فيها بين المناصب العسكرية والولاية المدنية أكسبته خبرة في سياسة البلاد، والاستفادة من كل الأحوال والأوضاع التي تمر بها، حتى استطاع أن يسير عشرين سنة، دون أن ينازعه منازع.
كما أنه كان متواضعا، وورعا، ويبكي من خشية الله تعالى، كما كان يحسن في معاملة رعيته، ويتق الله فيهم.
وقد أثنى كثيرا من الصحابة على معاوية بن أبي سفيان، وممن شكر وأثنى عليه.
- عمر بن الخطاب.
- علي بن أبي طالب.
- عبدالله بن عمر.
- عبدالله بن عباس
- سعد بن أبي وقاص.
- أبو هريرة.
- أبو الدرداء.
- سعيد بن المسيب.
- عبدالله بن المبارك.
- عمر بن عبد العزيز
وغيرهم كثير ممن شكر فضل معاوية ومدحه، من الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- أجمعين.