استطاع رسول الله ﷺ بناء الدولة الإسلامية في المدينة ووضع لها الأسس والقواعد التي جعلتها دولةً قويّةً، لم يسجل التاريخ لمجدها وعزّها مثيلاً.
ونلتقي مرة اخرى في قصة جديدة نتحدث فيها عن بناء الدولة الإسلامية في المدينة، ونكمل الأحداث السابقة:
تاريخ العرب قبل الإسلام: رحلة في الزمن إلى العصر الجاهلي
حياة الرسول قبل البعثة: من المولد إلى نزول الوحي
الدعوة في مكة المكرمة: من بداية الوحي إلى الإسلام الأول
الهجرة الى الحبشة: مسيرة الدعوة في مكة – تحديات وانتصارات
كيف غيرت بيعتا العقبة مسار الإسلام؟ استعراض تاريخي مفصل
فهرس المحتوى
أسس بناء الدولة الإسلامية في المدينة
بني النبي محمد ﷺ دولته الجديدة على مجموعة من الأسس الهامة لتدعيم قواعد الدين الإسلامي منها
بناء المسجد ودوره
فكان الأساس الأول هو بناء المسجد فبمجرد أن وصل رسول الله ﷺ إلى يثرب حرص على إقامة المساجد.
ما هو أول مسجد بني فالإسلام وما الهدف من بناء المساجد؟
لأن المسجد هو بيت الله، أقدس الأمكنة وأطهرها، وأصل الصلاة والعبادة، فبنىﷺ مسجد قباء (وهو أول مسجد بني في الإسلام) والمسجد النبوي الشريف (ثاني مسجد بني فالإسلام)، بل حرص على بناء المساجد في كل مكان يمر به، ومن ذلك تبوك التي غدا إليها غازياً في سبيل الله سنة 9هـ، على الرغم من أن إقامته بها لم تتجاوز بضع عشرة ليلة أقام بها مسجدا.
وقد بنى مسجده الذي تمت من خلاله تدريجيًا الإدارة الإسلامية إلى أن شملت الجزيرة العربية كلها، فأصبح جامعًا لإقامة الشعائر الدينية،ومقرًا للسلطة التنفيذية، ومركزا للقيادة العليا، منه تصدر الدعوة إلى الله وشرائع العبادة، وجميع الخطط والتدابير الإدارية والسياسية والعسكرية، وفيه تُستقبل الوفود، ويدرس العلم.
رسالة المسجد – أيام الرسول ﷺ
يمكننا تلخيصها فيما يأتي
مكان للعبادة والصلاة، ومدرسة للتعليم والتهذيب
هناك ارتباط وثيق بين المسجد والتعليم والعلم في الإسلام، ففي عهد رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدين كانت تدرس كل العلوم والمعارف الإنسانية، إذ كان المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين وكل ما كان من الأعمال التي تجمع منفعة الدين وأهله.
فيجب عند تكوين الأجيال الإسلامية وبناء شخصياتهم العلمية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية ألا نجعل روح المسجد تفارقنا وتغيب عن عقولنا في هذا البناء، فينبغي أن ندرك أنه بغير المسجد لا يمكن للفرد أن يَتَربَّى رُوحيًّا وإيمانيًّا وَخلقِيا واجْتماعيًّا، ولذلك فإن المسجد في الإسلام من أهم الأسس التي قام عليها تكوين الفرد وبناء المجتمع الإسلامي.
المسجد دار للشورى
كان النبي ﷺ يتشاور مع المسلمين في أخص شؤنهم وأمورهم في المسجد، وعلم أبناءه ألا يقطع المسئول عنهم أي رأي إلا إذا استشار فيه، ليصل إلى حل قاطع وذلك في كل أمر يهم المسلمين في دينهم ومعاشهم.
المسجد محكمة للقضاء
كان النبي ﷺ يفصل فيه بين المتخاصمين، وإقامة حدود الله وإقامة شرع الله، ومن ذلك ما رواه أبي هريرة قال:
أَتَى رَجُلٌ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في المَسْجِدِ، فَنَادَاهُ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ، فأعْرَضَ عنْه حتَّى رَدَّدَ عليه أرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ علَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: أبِكَ جُنُونٌ قالَ: لَا، قالَ: فَهلْ أحْصَنْتَ، قالَ: نَعَمْ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اذْهَبُوا به فَارْجُمُوهُ. قالَ ابنُ شِهَابٍ: فأخْبَرَنِي مَن سَمِعَ جَابِرَ بنَ عبدِ اللَّهِ، قالَ: فَكُنْتُ فِيمَن رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بالمُصَلَّى، فَلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ، فأدْرَكْنَاهُ بالحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ.
صحيح البخاري
المسجد مركز للقيادة العسكرية
من أبرز الأدوار التي أسهم فيها المسجد بقدر كبير، حيث كان مركزًا للقيادة تصدر عنه الأوامر، وتنطلق منه السرايا والغزوات، والأدلة والأمثلة على ذلك أكثر من أن نعرضها، وكانت تعقد فيه الألوية للرؤساء والقواد وتلك الوظيفة كانت بعد الصلاة.
فلا عجب أن المجتمع المسلم يكتسب صفة الرسوخ والتمسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه.
المؤاخاة
المؤاخاة بين المسلمين عامة، والمهاجرين والأنصار بصفة خاصة، فقد وثق رسول الله صلة الأمة بعضها ببعض، وأقامها على الإخاء الكامل، ذلك الإخاء الذي ينتقي ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، تأكيدًا للمعنى الإيماني في قوله تعالى
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
الأنفال
وتمت تلك المؤاخاة لتحل الأزمة المالية للمهاجرين وتنظيم علاقاتهم الإجتماعية بإخوانهم الأنصار، فقامت المؤاخاة على ثلاث مراحل هي
مراحل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
- بَيْنَ مُهَاجِرٍ وَمُهَاجِرٍ
- بَيْنَ أَنْصَارِي وَأَنْصَارِيّ
- بَيْنَ مُهَاجِرٍ وَأَنْصَارِيٍّ
ثم أعلن رسول الله ﷺ المؤاخاة بمعناها الأشمل والتي تختلف عن المعاهدة من حيث إن لها سمة اجتماعية أدق وتتبعها التزامات مالية.
فكانت العقيدة هي الأساس الذي قامت عليه الوحدة بين المسلمين والمؤاخاة، لإن التآخي لا بد أن يكون مسبوقاً بعقيدة يتم اللقاء عليها، والإيمان بها، والتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى، خرافة ووهم.
ويقول ابن الجوزي: (إن رسول الله ﷺ حالف بين المهاجرين والأنصار، في دار أنس)، وكان عددهم تسعين رجلاً وقيل مائة، خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار.
ابن الجوزي
لماذا آخى الرسول بين المهاجرين واﻷنصار؟
والمؤاخاة لا تعني الإعتماد على الغير والبطالة والكف عن السعي وراء الرزق، كلا، فإنها كانت من هذه الناحية الاقتصادية درسًا أخلاقيًا واجتماعيًا من أعظم الدروس في التنظيم الاجتماعي، يعين المسلم أخاه المسلم في وقت الحاجة الشديدة، وهناك رواية تشير إلى ذلك.
لَمَّا قَدِمْنا المَدِينَةَ آخَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيْنِي وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، فقالَ سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ: إنِّي أكْثَرُ الأنْصارِ مالًا، فأَقْسِمُ لكَ نِصْفَ مالِي، وانْظُرْ أيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لكَ عَنْها، فإذا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَها. قالَ: فقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ: لا حاجَةَ لي في ذلكَ، هلْ مِن سُوقٍ فيه تِجارَةٌ؟ قالَ: سُوقُ قَيْنُقاعٍ. قالَ: فَغَدا إلَيْهِ عبدُ الرَّحْمَنِ، فأتَى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قالَ: ثُمَّ تابَعَ الغُدُوَّ، فَما لَبِثَ أنْ جاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ عليه أثَرُ صُفْرَةٍ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَزَوَّجْتَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ومَنْ؟ قالَ: امْرَأَةً مِنَ الأنْصارِ، قالَ: كَمْ سُقْتَ؟ قالَ: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهَبٍ -أوْ نَواةً مِن ذَهَبٍ-، فقالَ له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوْلِمْ ولو بِشاةٍ. (يعني عدم التكلف في الزواج).
صحيح البخاري
فكانت المؤاخاة مثلاً على مرونة الإسلام وتجربة للعدل الإجتماعى، وقد صرح النبي ﷺ بهذه الأخوة، حيث قال :
لو كُنْتُ متَّخِذًا خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا ولكنَّه أخي وصاحبي وقد اتَّخَذ اللهُ صاحبَكم خليلًا
صحيح مسلم
طريقة تنظيم رسول الله للعلاقات بين مجتمع المدينة
كان مجتمع المدينة يتكون من المهاجرين والأنصار وعرب غير مسلمين(وكان عددهم يتناقص يوماً بعد الآخر) واليهود(وهم بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير)، وبعض من النصارى، فأراد رسول الله ﷺ وضع أسلوب للتعايش السلمي بين كل هذه الطوائف، فمن منطلق الحرص على استقرار الأمن، واستقرار الأوضاع داخل الوطن الجديد، كان لا بد من عقد معاهدة بين هذه الأطراف تحقق الاستقرار المطلوب حتى تنهض الدولة الناشئة وتتضح معالمها.
وأن هذه الوثيقة في تلك الفترة على وجه التحديد كان لا بد لها من صيغة تهدف إلى المسالمة والتناصر وحسن الجوار وحرية الدين والعبادة، لكي ينتشر الأمن والسلام في كل أرجاء المدينة، وفي تلك الوثيقة أعتراف صريح بأن محمداً ﷺ هو الرئيس الأعلى من الناحية السياسية للمدينة بجانب كونه نبي يقود المجتمع الإسلامي في المدينة.
فكتب رسول الله ﷺ كتابا عُرِف فِي المصادر القديمة بِاسْم «الكتَاب» و«الصَّحيفة»، وأسْمَاه الكتاب المحدثون«الدُّسْتور» أو«الوثيقة».
الصحيفةهي الدستور الأساسي للدولة الإسلامية
نظَّم النَّبيُّ العلاقات بين سكان المدينة بتلك المعاهدة، وتحتوي على اثنين وخمسين بندًا، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان.
وقد دُوّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم.
وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م، ولكن في حال مهاجمة المدينة من أي عدوان عليهم أن يقفوا صفًا واحدًا ويتحدوا في مقاتلتهم وطردهم.
القواعد الإسلامية التي نصت عليها الوثيقة
- لا يجوز للفرد القيام بأعمال تضر بمصلحة الجماعة، فإنه ليس للأمة أن تقيد حرية الفرد ما لم تضر بمصلحة المجموع، وقد نصت الوثيقة على ذلك(لا يكسب كاسب إلا على نفسه) وأنه (لا يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم).
- أهمية الأسس الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية، فقد نصت على (أن الله جار لمن بر واتقى)، أي أن الله يحمي من يبر ويتقي ويتخلق بالأخلاق الحسنة، وقد أباح الإسلام للفرد حرية الإقامة والتنقل، ومزاولة ما يريده من الحرف دون تقييد ما دامت هذه الحرية لا تضر مصلحة المجموع، وتراعي المبادئ الأخلاقية في السلوك الفردي وفي العلاقات الاجتماعية.
- أقرت الوثيقة بعض الأعراف والعادات التي كانت منتشرة بين العرب وأقرها الإسلام، مثل دفع الدية والتعاون، لأن وحدة الأمة والتأكيد على مصلحة الجماعة أساسية، ولها المكان الأول، فقد أقر الرسول ﷺ النظام العشائري أساسًا للبقاء ودفع الدية والتعاون، فكرر ذكر العشائر، ونص على أن كلا منها «على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم، يفدون عانيهم بالمعروف».
- ونصت الوثيقة على أنه(لا يحالف مؤمن مولى مؤمن من دونه) وبذلك أقر بقاء الولاء ومنع محالفة الموالي دون موافقة أسيادهم، ومن المعلوم أن مؤسسة الولاء قديمة وفيها منافع للمولى والعشيرة فهي تمكن المولى من ممارسة نشاطه وأعماله في ظل الحماية التي يوفرها الولاء، والعشيرة تستفيد بزيادة عددها ويقدمون لها العون.
فبتلك الوثيقة أصبحت المدينة وحدة متكاملة اقتصاديًا واجتماعيًا وعسكريًا، تدافع عن نفسها ضد أي غزو خارجي مع اقتسام النفقات، وتهيئ للسكان الأمن والهدوء، وتقيم بينهم رابطة المحبة والمودة والتعاون.
بعض القواعد الأساسية التي قام عليها دستور العمل في المدينة
- تعريف مفهوم الأمة، وتطوير الجماعة الإسلامية، وإبراز الدور القيادي للرسول ﷺ
- حرية الأديان
- سيادة الدولة الإسلامية الناشئة
- إيجاد علاقات داخلية وخارجية للدولة الناشئة في المدينة.
الخاتمة
فقد أراد الله بعد الهجرة إلى المدينة المنورة أن ينير من هذا المجتمع الجديد، نور الإسلام ليضيء جميع بقاع الأرض، فكانت الهجرة في الحقيقة النواة الأولى لتأسيس الأمة الإسلامية وكانت المدينة المنورة أولى عواصم الإسلام، منها انطلق المسلمون لينشروا دين الله.
ما هي أسس بناء الدولة الإسلامية في المدينة ؟
بناء المساجد وأهميتها، المؤاخاة، الوثيقة أو الدستور الذي كتبه رسول الله ﷺ.
من هو مؤسس الدولة الإسلامية ؟
مؤسس الدولة الإسلامية هو محمد بن عبد الله ﷺ والقائد الأعلى للمسلمين.
ما الهدف من كتابة الرسول للصحيفة «الوثيقة» المدينة؟
والهدف من كتابتها تنظيم المجتمع الإسلامي، والعلاقات بين الجميع، لتضمن أن يسود العدل، ويحصل كلّ ذي حقٍ على حقّه، ويقوم كلّ مواطن بواجباته.
متى تم بناء الدولة الإسلامية في المدينة ؟
تم بناء الدولة الإسلامية في السنة الأولى من هجرة الرسول ﷺ إليها، منذ أن لمسة قدميه أرض يثرب بدأ في تأسيس الدولة الإسلامية.